نوفيلا
حذارى مــن الـحــب
دراما رومـانسـيـةاجـتـمـاعيـة
"حذروني من أن أحب ، من الهوى و الغرق في بحور العشق
أخبروني كم خافت شهرزاد،و كيف ماتت جوليت من هوي روميو
و كم قستّ ليلي من حب قيس ، و كم تعذبت عبلة في حب عنترة
أخبروني قواعد الهوى من العشقّ حتى العذاب
و ليتني سمعت حديثهم
ولم أرتدّ بحور العشق بغير طوق النجاة !"
***********************
وضعت كلتا يدها علي آذنها عل
يبتعد عنها صوت الصراخ و الصيحات عله يفهم أنه ضيف غير مرغوب به هنا فيرحل في خجل
ولا يعود ولكن هيهات فالصوت ضيف لا يستأذن و الصراخ و الصيحات أحد عمدان بعض
المناطق كالمنطقة التي تقطن فيها هي ، أنزلت القلم بعصيبة علي المكتب ونهضت من
خلفه بخطوط سريعة إلي الشرفة الوحيدة في غرفتها و خرجت تقف علي حافتها تنظر إلي
الشارع من فوق الطابق العاشر فظهر و كأنه ساحة مكعبات مقلوبة رأساً علي عقب ليس
فيها أي شيء مرتب و تتميز باتساخ حوافها و منتصفها و تتعالي أصوات لاعبيها حد
تتمني معه الصم ،هكذا هي أحوال الأحياء الشعبية دائماً عج بالصراخ و القذارة التي
لا مبرر لها هكذا هتفت نهلة داخل رأسها المحمل بالأسئلة و انتفضت لنفسها و هي تنظر
إلي البحر الذي يقع جانب بنايتها العالية و لم تنتهي نظرتها الثانية إلا و كانت قد
أغلقت الشرفة عل الأصوات تبتعد قليلاً ، تنهدت ببطيء و اتجهت مرة آخري إلي مكتبها
و حاولت مجدداً أن تنهي بحثها و فجأة تعالت الأصوات مرة آخري لكن من الداخل وضعت
القلم مجدداً ونهضت بعصبية إلي البهو لتجد والدتها جالسة علي أحدي المقاعد تشاهد
التلفاز بصوت مرتفع جداً :
"ماما التليفزيون عالي أوي
و أنا مش عارفه أركز كفاية أصلاً الأصوات اللي بره "
نظرت لها والدتها من خلف
منظارها الطبي ثم عودت النظر إلي التلفاز مجدداً :
"موال كل يوم ده يا نهلة يعني
اللي في الدور الأول ساكنين أزاي "
وضعت يدها في جيب بنطالها
الرصاصي و استندت علي حرف باب غرفتها قائلة:
"بس اللي في الدور الأول
مش عندهم حد في ثالثة جامعة و لا عندهم حد محتاج الهدوء والراحة والتركيز يا ماما
"
" أخرك البيت و الجواز يا
نهلة "
"ماما لازم تفهمي إن
التعليم مهم ده اللي ها يخلني ليا قيمة ، ها يخلني قادرة أستوعب كل اللي بيحصل ،
صدقيني ماما التعليم مهم "
"بلاش كلام الأفلام ده و
أدخلي أوضتك بقي عشان مش ناقصة وجع دماغ "
هزت نهلة رأسها في يائس و دخلت
غرفتها و أغلقت الباب ورائها في قوة غاضبة ...
*****
دلفت من الحمام إلي المطبخ
أحضرت طبقان من الجيلي الذي أعددته اليوم ثم غادرت شقتها إلي شقة جارتها في الطابق
الذي يليها ، فتحت لها جارتها البشوشة فهزت رأسها بابتسام و سارت في هدوء إلي
الداخل وضعت طبقين الجيلي علي المنضدة الصغيرة التي تتوسط الأريكة و التلفاز و
جلست قائلة :
"ده بقي جيلي ها تأكلي صوابعك
أنتي و الدكتور ورائه"
أغلقت الباب و اتجهت إليها
ببطيء :
" و الله يا ليلي ده كثير
أوي علينا "
"كثير أيه بس يا نادية ده
لو مكنش أنتي كان زماني طاقت من الوحدة
"
هزت نادية رأسها في آسي :
"أنتي اللي رافضتي تتجوزي
بعد المرحوم و كمان فضلتي تعقدي لوحدك هنا "
أرجعت ليلي رأسها للوراء و
تنهدت بقهر قائلة:
" عمره ما كان ها ينفع بعد
ما سبت الدوشة و المشاكل والشارع اللي علي طول في حالة قرف و أعيش هنا في الهدوء و
النظافة و أرجع له ثاني .. حتى الجواز بقي حاجة مستحيلة بالنسبة ليا"
لمست كتفيها برفق قائلة :
"عندك حق كده أحسن مائة
مرة و بيني و بينك كبرنا علي الجواز و الأهم أننا كده مرتاحين جداً "
ابتسمت ليلي برفق و أردفت:
"قوليلي بقي فين الدكتور
ولا هو لسه في المستشفي "
"آه ... ياريت يفضل هناك
علي طول"
اعتدلت ليلي في جلستها قائلة :
"حرام عليكي يا نادية ده
أبنك "
أكفر وجه نادية و أردفت كأنها
لم تسمع ليلي:
" كل يوم يخلص شغل يرجع
البيت يأكل و ينزل يخرج مع كأم بنت ، ده غير المشاكل والمواقف اللي بيحطني فيها
دول نص سكان العمارة مني عينهم نمشي بسبب معاكساته و وعوده للبنات بالجواز ويرجع
يقولي لا يا ماما .. خلي في شغله يمكن يرحمني من قلت عقله دي"
أجابتها ليلي بهدوء:
" ما تخطبي له عقبال ما
يكون نفسه و أهو واحدة تبقي معه"
"علي أيدك يا ليلي حاولت و
أسبوعين و سبها و من يومها حرمت لازم المرة دي يكون متأكد أنه مش ها يسبها"
"خلاص هدي روحك و معتز ده
أنا ها أقعد معه و أتكلم معه تأني عشان يهدي كده "
" يأرب يهدي بقي و يريح
قلبي عليه"
"أمين يأرب"
و أدارت كل منهما وجهها للتفاز
الذي يبدأ بعرض مسلسلهم المفضل الذي يعود بهما إلي الماضي ، وراحت كل منهما تتابعه
في شغف يقطعه تعليقاتهم كل عدده دقائق ..
*******
ابتسم كل منهما للآخر دون أن
يلاحظ ثالثهما و تلاقت أعينهم لثوان ففهم كل منهما علي الآخر ، و استدار الشاب
الجالس علي المكتب ليلتقط دفتر صغير و قلم ثم نهض متجه إلي السيدة الجالسة أمام
الآخر علي فراش الكشف ،و تتنحنح لينبهوا له :
" أحم .. الحقيقة يا مدام
دليا حضرتك عندك مشكلة في الجواز "
تنبهت السيدة الجالسة و أدرت
عينها إلي الآخر قائلة بجزع :
"يعني أيه يا دكتور معتز
"
حاول معتز أن يخفي ابتسامته قدر
الإمكان و أردف بلا مبالاة مقصودة :
"يعني يا مدام ممكن مش
تقدري تتجوزي تأني ، لأن بعد الإجهاض حصل مشاكل في الرحم و خلافه لأنها مش أول مرة
تجهضي "
صرخت فيه بصوت مرتفع قليلاً:
"أيه اللي بتقوله ده ؟ ..
معني أيه يعني"
"معني أنك ممكن تبقي رجل
مثلاً"
و أنطلق الضحكات من فم معتز علي
كلمات صديقه الطبيب عمرو الذي ابتعد عن دليا خطوط بسيطة و رسم بإتقان ملامح
اللأمبالاة ، بينما نظرت لهم دليا بسخط و كأنها ستفتك بهم في أي لحظة فأردف معتز
بسرعة :
"يعني يا مدام دليا الأفضل
تروحي لدكتورة ريم أستاذة أمراض النساء"
لم ينسب حرف بين شفتيها بل آخذت
حقيبتها و انطلقت إلي الخارج بعد أن رمقت عمرو بنظرات غريبة ، وبمجرد خروجها أنفجر
عمرو و معتز ضحكاً حتى كاد كل من بالمشفي يسمعهم ..
"يخرب بيتك يا عمرو علي
اللي عملته فيها "
انتفض عمرو من مكانه و راح يجلس
علي المقعد أمام المكتب :
"تستأهل أكثر والله علي
اللي بتعمله ده "
تابعه معتز و جلس أمامه مبسط
يديه:
" يا أبني ده سيدة أعمال
مشهورة و بتحبك و كل يوم تجي هنا عشانك ، حد عاقل يرفض حاجة زى دي"
" سبتلك أنت العقل و
الفضائح يا عاقل"
" أعمل أيه مع البنات دي هي
بتجي لحد عندي أقولهم لا "
" لا و ده ينفع بردوه
"
"أنا عارف"
فجأة أطرق إلي آذنهم صوت خطوات
من الممر و ثوان و ظهرت لبني الممرضة الحسناء التي تعشق دكتور عمرو "وسيم
المشفي" كما يلقبٌنه هناك ، فعمرو يتمتع ببشرة قمحاوية فاتحة و أعيون عسلية
صافية كلون العسل الخام و شعر بني لامع و خفة ظل و طريقة حديث تجذب من الجملة
الأولي ، ورغم ذلك لم يلتفت لحسناوات المشفي الذي يحولون فهن في نظره رخيصات حد
عدم صلاحيتهم للشراء كالممرضة لبني حسناء المشفي التي يتمنها الجميع و هي تتمني
دكتور عمرو الوسيم الغني ، و دلفت هي إلي الغرف في دلال طار معه عقل معتز بينما
جلس عمرو ثابت فأردفت في رقة بالغة :
" أوضة الكشف جهزت يا
دكتور و حالات كثير موجودة "
أجابها عمرو و هو يلتقط دفتر
كبير أسود:
"طيب روحي و أنا خمس دقائق
و ها أحصلك "
ملت بجزعها علي المقعد قليلاً و
قالت في صوت أقرب للهمس:
"تحب أستنك يا دكتور"
لم يعيرها أنتبه مطلقاً و أردف
بهدوء:
"لا روحي و أنا ها
أحصلك"
أحمر وجهها و نفخت بقوة و أدرت
ظهرها لهما و غادرت الغرفة بينما أردف معتز:
" و اللي أنت ها تجنني
"
لم يجيب عمرو بل أكتف بابتسامة
و أشار له برأسه و غادر إلي غرفة الفحص ..
كانت المشفي تعج بالناس و
خصوصاً و قد حان موعود الزيارة ، و في أحدي الغرفة كان يجلس رجل و امرأة علي
المقعد بجانب فراش رجل
في عقده الخامس بالكاد يتحدث
قائلاً :
"المهم تروح لمصطفي و
تديله الفلوس و العقود أنا خلاص كده حسن الختام ولازم أرجع للرجل ده حقه "
أكفرت السيدة الجالسة أمامه و
قالت بغضب:
"يا عبد المقصود ها تديله
الفلوس و العقود كمان ، ما كفاية عليه العقود و الفلوس خليها لبناتنا"
سعل الرجل بوهن ثم قال:
"ده حقه اللي كان لازم
يأخذه من زمان أنا .. أنا ظلمته كثير و دى النتيجة بقيت لوحدي من غير أخواتي و
بناتنا عندهم اللي يكفيهم و زيادة أوي أنما أخوي أحنا ظلمنا كثير أنا وفاتن
أختي"
أشاحت بيدها في وجه قائلة :
"ما هي أمك اللي قالتلك
خلي كل حاجة معك و لما يكون عايز أديله عشان أخوك مصرف"
سعل بقوة هذه المرة و أردف
بضعف:
" كان لازم أفكر أنه محتاج
أكثر واحد فينا بعد ما كلنا ظلمنا و بلاش نتكلم في اللي فات بيوجع ، كح .. كح .. كخخ ، كانت لازم أعمل حساب يوم
ممكن أموت فيه من غير أخواتي يوم زى ده
"
أدرت وجهها و هي تمتم بكلمات
ساخطة عليه ، بينما استطرد الرجل الثاني قائلاً :
"يعني أروح العنوان ده و
أسال علي شقة مصطفي عبد لله "
"آه .. و خلي بالك في
أثنين أسمهم كده في العمارة فأبقي قول للبواب أبو نهلة"
هز الرجل رأسه و تمتم بكلمات و
أنصرف بينما دخلت لبني و هي تجر عربة صغيرة ، اقتربت منه و أعطته دواء ثم غرزت له
محقن في المحلول ..
"هو ها ينام"
أخرجت لبني المحقن ووضعته في
العربة و استدارت خارجة:
"آه يا مدام دقائق و ها
ينام "
تنفست ابتسام الصعداء و تممت
بسخط عليه منتظرة غفوته حتى ترحل ، بينما غادرت لبني الحجرة عائدة لدكتور عمرو لكن
استوقفتها سماح بوقوفها أمام العربة قائلة وهي تلوك اللبان في فمها :
" علي فين يا لبني دكتورة
كريمة عايزكي في العظام فوق "
" أنا مع دكتور عمرو يا
سماح "
ابتسمت سماح بسخرية قائلة:
" كل مع دكتور عمرو كده ،
هي أيه الحكاية "
"بحبه يا بت يا بحبه أوي
وهو ولا حاسس .. المهم عايزكي في خدمة"
"خير"
"روحي حطتني شفت نايت بكره
بدل هالة "
ضحكت سماح بهدوء:
"آه ما الدكتور الوسيم
عنده نايت بروده , بس ماشي أهي هالة بردوه تروح لأولادها "
ابتعدت سماح من أمامها و سارت
لبني بالعربة ببطيء و هي تقول :
"ربنا يخليكي ليا يا سماح
"
و ابتسمت في خبث و هي تطلق
تنهيدة حارة ...
************
كانت الشمس تتوسط السماء و
الساعة تتجاوز الثانية بقليل و هي تسير في دلال هادئ و ملامحها مبتسمة تحمل كتبها
بين يدها و تتهادي في خطها شاعرة بسعادة لحصولها علي رواية "في بيتنا
رجل" لإحسان عبد القدوس في نسخة ورقية جديدة كم تود قرأتها و هروبها دخلها من
كل شيء يحدث حولها، احتضنتها برقة ، و أكملت سيرها و هي تستنشق الهواء النقي وتزيح
حجابها من علي وجهها بين حين و آخر و حين وصلت إلي شارعها وقفت غيمة حزن علي رأسها و هي تقارن بين باقي الشوارع و شارعها
المتسخ و أهمل الناس له حتى صار جزء من الأحياء الشعبية مع أنه يطل علي البحر و
حوله شوارع أكثر نظافة لكن الناس لم يتركه مثلهم و كأنهم يحزنون إذا جلسوا في وسط
هدوء و نظافة ، تنهدت و هي تهز رأسها بيأس و اتجهت صوب بنايتها التي تحتاج فقط
للاهتمام كالشارع حتى يصبحوا في أوجه حالاتهم كصور الشارع القديمة ! .
صعدت عدده درجات بينما استوقفه
أحدهما قائلاً :
"متعرفيش يا بنتي شقة
أستاذ مصطفي أبو نهلة ؟"
يــتـبـع ...
حلوة اوى البداية
ردحذف