الأحد، 11 سبتمبر 2016

عالم سوداي من تفاصيل عالمنا التي تصنع " المسخ " .. فرانز كافكا






" كان متيقنًا تمام اليقين من أنها قد كفته مشقة الانزعاج الذي لم تكن تتحمله قط ببقائها في وجوده بداخل الحجرة دون أن تسرع بفتح النافذة " 


بعد ليل من الأحلام المزعجة أستيقظ جريجور ليجد أنه قد تحول إلي مسخ عملاق بأقدام كثيرة صغيرة ضعيفة و رأس صغيرة و قرون استشعار ! .


كيف سيعش مع أسرة كان هو  يتكلف بإعالتها و تحمل نفقاتها و ديونها ؟ هل كان ساذجٍ لدرجة أنه ظن أنهم سيتحملون مسخ لمجرد أنه أفن حياته من أجلها ؟!
كان ساذج .. مازال يصدق في الإنسانية .
و إذا كانت الإنسانية مشاعر واعية تكشف حقيقة الإنسان ، فكافكا يعري الإنسانية من زيفها و يقشرها بألم عن كل مظاهرها بمنتهي الوجع و الألم و .. المتعة ! .
أتساءل كم مرة رغب كافكا في الموت و التلاشي عن العالم ، ليصل إلي تلك الدرجة من الحقيقة حيث يدهس كل شيء متعارف عليه، كل المعروف و البديهي و كل المشاعر و يجلس أمام حفنة أوراق و أقلام ليزيل كل شيء يغطي الإنسانية و يكشفها بمنتهي الكوميدية و المتعة و الألم لتتجلي في حقيقتها البشعة .
" علي الكاتب أن يحرك الجراح ، عليه أن يتسبب فيها ، علي الكتابة أن تشكل خطرًا "
في الفصل الأول يتشكل تحريف الخطر المضحك علي الكوميدية السوداء ، السيد سامسا يستيقظ بعد ليل من الأحلام المزعجة ليجد نفسه حشرة !
هل يصاب الذعر ؟ لا
هل يتشتت ؟ لا
هل يبكي ، يصرخ ؟ لا
إذا ماذا فعل ؟ أضجع _عقليًا _ يفكر .
نعم أن جريجور سامسا آخذ يفكر و يتعرف علي شكله الجديد ، الحياة من منظوره الجديد بمنتهي التأقلم ، ربما هذا ما يفعله الجزء الأكبر من بني آدم .. التأقلم
رغم صعوبة الوضع و الوحدة و الحزن إلا أنه يحاول التأقلم لكن هل من حاوله يساعدونه ؟
و هذا ما آخذ يشرحه و يؤكده كافكا في الفصل الثاني ، هذا الخطر الذي سببته الكتابة .
في الفصل الأول كان تعريف مفصل عن جريجور و عالمه الجديد و القديم ، أما الثاني فيصف كيفية الحياة لمسخ مع أسرته ؟
كيف كانت شقيقته تواليه رعاية في البداية و تهتم بتقديم نوع الطعام المختلف الذي صار يشتهي ، و تنظيف حجرته التي أصبحت بعد ذلك ملقي المهملات و كل الأشياء التي تم الاستغناء عنها .
و أنه أصبح تسليته الوحيدة الزحف علي الجدران و السقف و تثبيت جسده ! ، و سماع عزف أخته !
" لقد صمم علي مواصلة زحفه حتى يبلغ مكان شقيقته ، ليجذب طرف جونيلتها ، لعلها تدرك أن عليها أن تجئ بكمانها إلي داخل حجرته – ذلك أن لا أحد يتذوق عزفها كما يمكنه هو أن يتذوقه " .


هل كان سيوران محق في قوله أن الموسيقي شفاء لأرواح التي جرحتها السعادة ؟
أم كان محق أكثر في أن هذا العالم لا يستحق أن نعرفه ؟ .
" لم تكن لدي جريجور رغبة في إفزاع أي شخص فضلًا عن شقيقته " .
ذلك أن أسرته رأت أنها ساعدته – إنسانيًا – و لكن يجب أن يتخلصا منه ، و بينما كانوا يفكرون في الطريقة المناسبة لذلك كان جريجور يعاني من التفاحة التي قذفها والده في ساعة غضب عليها فانغرست في ظهره !
و لك أن تتألم من تخيل كائنًا ما كان غير قادر علي المقاومة نركض خلفه في ساعة غضبه لنطيح به بأي شيء أمامنا .
و تتألم أكثر من شكل تعفن التفاحة المغروسة بظهره و الجراح الملتهبة حولها لتسقط رأسه في تلك اللحظة و تختفي أنفاسه اللاهثة ..
فيبدو أن جريجور كان يدرك أكثر بكثير مما تخيله والده .
و تأتي النهاية لتلك النوفيلا القصيرة بشيء من العادية ، كأنهم ما ودع شيئا كان يحمل عنهما عنائهم و يتنفس ، كان يومًا الأمل ..
لكن  هذا العالم لا يهتم بمن يسقط ، هذا العالم يسحق بمن يسقط
كان لابد أن يتلاشي و يعود أو يذهب لعالم آخر ، لوحدة أخري كما قال خوان خوسيه " هذه هي الوحدة " ..
الوحدة ذكريات باهتة من عالمك و مكان تقبع فيه معها في محاولة بائسة للبدء .
كانت القصة في فصلين ، قصيرة لكنها مليئة بالتفاصيل ستنهيها في جلسة لكن قد تمتد لثلاثة ساعات متواصلة و ستشعر بضاءلتك حين تنهيها و تتأكد أنك ستصبح عبء حالما تتحول لغريب ، حالما تتحول لشيء لا يقدر علي الحراك أو الآتيان بأي شيء مفيد لهم !
هذا العالم يستحق الإنسانية بجدارة ، و هذه الحقيقة التي كان يحرص كافكا و ساراماغو و آوريل علي تأكيدها .  
الترجمة كانت متنوعة لذلك قراءتها بالإنجليزية و بالعربية ترجمة الدسوقي فهمي ضمن الأعمال الكاملة و كانت ترجمة جيدة علي عكس آخري كنتٌ آخذت فكرة عنها و وجدتها سيئة لحد ما .
الراوي كان مختفي و دوره منصوب فقط علي سرد الأحداث و التفاصيل دون تعليقات ، و كافكا يجيد السرد و الطريف أن في قوت كتابة تلك النوفيلا كانت كلمة حشرة تعني " حيوان غير نظيف لا يستخدم كأضحية " أي أن كافكا اختار مصطلحًا غامضًا وقتها ليبني عليه قصته ، لذلك ستجد مختلف الأسماء في الترجمات فمنهم من سماها بالحشرة ، الدودة العملاقة أو الدودة الهائلة أو حيوان الخلد و التحول رغم أن موضوعها لم يكن يشير لذلك الاسم .. أنا أفضل المسخ لدلالتها علي نظرة الآخرين المنعكسة  له .
و كما جاء في كتاب معطف فوق سرير العالم :
 سنة ١٩١٥ قام كافكا بإرسال رسالة إلى الناشر يقول فيها: "لا أريد للحشرة أن تُرسم في الكتاب. ولا أريد لها أن تُرى حتى من مسافة بعيدة.” وفي غلاف الكتاب الأصلي تظهر صورة لرجل طبيعي، والذي يبدو وكأنه يتخيل حدوث مسخ هائل، ولكننا لا نرى هذا التحول ظاهرًا عليه بشكل فيزيائي.
أي لأنه قادر علي استغلال هذه المطابقات العتيقة في اللغة ، هو يقصد حشرة نعم لكن اختار أن يتجنب الوضوح  و هذا ربما هو السبب الحقيقي وراء منع كافكا لأي صور أو رسومات لجويجور و ربما هذا المصدر الرئيس لعبقريته .

 أما الفنتازيا التي تقوم عليه القصة لا تقلل أبدًا من واقعيتها و إسقاطها بشكل ذكي علي واقع الإنسان المعاصر ، فلا توجد لديك مشكلة لتقبلها و كأنها واقعًا يحدث طوال الوقت .
النهاية رغم أنها تتمثل في طبقة العادية إلا أنها المناسبة تمامًا ، نحن لا نفكر فمن يذهب حين يذهب و هذه رغم بشاعتها حقيقة .
فكما قال كافكا : " إننا نحتاج إلى تلك الكتب التي تنزل علينا كالصاعقة التي تؤلمنا، كموت من نحبه أكثر مما نحب أنفسنا، التي تجعلنا نشعر وكأننا قد طردنا إلى الغابات بعيدًا عن الناس "
و هو جيد جدًا في طردنا بعيدة عن الناس ، مع الوحدة .
التقييم
7/10  







السبت، 10 سبتمبر 2016

صلي من أجلنا " يا مريم " .. سنان أنطون

" السلام لكِ يا مريم ، الممتلئة نعمة ، الرب معك ، مباركة أنتِ في النساء
و مباركة ثمرة بطنك يسوع ، يا مريم القديسة ، يا والدة الله ، صلي لأجلنا نحن الخطاة
الآن ، و في ساعة موتنا ، أمين "

أن تعيش في الماضي :
قرأت من أيام علي الفيس بوك بوست صغير يصف فيه نوعية معينة تقرأ نوع من الأدب يراه رديء بالحمارية ، بكل نرجسية العالم يقف و يظن أن من حقه أن يقيم آخرون و ينعتهم بتلك الصفة .. تري أيهم الحمار الحقيقي ؟
و هكذا ستظل تنخر العنصرية دماء العرب ، ستظل تنمو بالداخل حتى تصل إلي اللحظة التي سيكره فيها الإنسان كل شيء عدا ما يراه بالمرآة .
العنصرية هي شكل عنيف من الأنانية ، هي شكل لا يسمح لك بتقبل أي رأي أي شخص أي دين سواك .
أنت الأفضل ، لما كل البشر لا تفكر مثلك؟ لا تقرأ مثلك؟ لا تعلن إيمانها بدينك ؟
الزهو بأنك من اختاره الله سبحانه و تعالي ليفعل كل الخلق مثله !
و لكن هذا غير صحيح أبدًا !
الله لم يأمرك بأن تتدخل الناس بالغصب و القتل في دينك ، لم يقول في كتابه أنه يحتاج لدافعك المحموم بالدماء و الصراخ عنه !
أنه خالق الكون كله ، فهل يحتاج لمشّداتك كي تدافع عنه ؟
الهجر بالعلاقة الخاصة جدًا بينك و بين الخالق ، هل هذا صواب ؟
أنك تتظاهر بالأيمان أم أنت مؤمن فعلا ؟ ، و إن كان جوابك أنك مؤمن فلم تقتل لكي تخرج من لا يعتنق دينك ؟ هل هذا ما طالبك به الله ؟
إن الإمبراطور قسطنطين الأول  الذي أعلن مسيحيته و كان البلد الذي يفتحها الذي لا يريد أن يصير مسيحي كان ينخر عنقه بمباركة الكنسية  سنة 337 ميلاديًا .
و من بعد المصطفي الذي كان يأخذ جزية علي من لا يريد الدخول إلي الإسلام ، صارت الحروب الفتوحات أعنف و كان يقتل و يعذب من لا يريد الدخول إلي الإسلام .
و نمت العنصرية حتى وصلت لحروب أهلية من طائفة لأخرى في ذات البلد ، نهدم بلد و نخرب وطن لكن لا نتعلم أن نحيا مع بعضنا البعض .
تتطور الوضع الآن لمشدّات علي مواقع التواصل _ الإجتماعي _ لحرب ظاهرية و شن هجوم علي كل من لا يعتنق دينك و يفعل ما تفعل ، علي الرغم من أننا لسنا في ظرف يسمح لنا بالحكم علي الغير ، و كل ما نستطيع فعله هو الحكم علي أنفسنا إلا أننا لا أي شيء سوي الحكم علي الغير ؟
سأتحدث قليلًا عن الإسلام بما أعرف و معرفتي قليلة ، لكني قرأت في القرآن الكريم سورة النساء  :
" وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا "
لم يطلب منك الله أن تحارب و تسفك الدماء باسمه ، لم يطلب أن تقتل و تخانق من أجله ، لكنه طلب الطلب الأكرم في سورة الغاشية :
" فذكر أنما أنت مذكر ، لستْ عليهم بمصيطر " .
الله يطالبك بالذكر و لا يجعلك منك مسيطر ، أنت لست بخالق الإيمان داخل النفس و لست أنت من تكرهم علي الإيمان !
الله ليس في حاجة خناقك من أجله ، أنت من بحاجة لأن تستمع له و تذكر بالتي هي أحسن .
العنصرية تتشعب من الدين للشكل للون للغة ، كل ما هو مختلف عنا فهو منبوذ كافر غبي !
و هذا سبب حرب العراق 1991 حيث عاد البشر إلي السراديب لأن طائفتين قرروا خوض معركة طاحن .. لم يخطئ سعد زغلول بل أظنه علم مبكرًا أننا لن نتفق و لن نستمتع سوي لأنفسنا ، الأنا العليا هي من تحركنا و تقودنا و هي تضع عصابة بيضاء علي عيوننا !
هيا نخرب الوطن لأن :
مسيحي بس محترم
يهودي لكن مش مالهوش دعوة بإسرائيل
أظن أننا جمعيًا نحتاج للعيش في الماضي حيث الأنانية في صورها الأولية الغير مضرة .. في الماضي البعيد قليلًا لم يكن أحد يقتل الآخر باسم الله .
لكن مها لن تفعل ، أظن أننا لن نستطيع أن نفعل ..
الرواية مستوحاة من أحداث تفجير كنسية النجاة 2010 ، ربما لم يتحدث عن تلك المأساة كما تحدثت مها في رأيي ، عن طريقة الإرهابيون و لفظ الطلقات علي بشر باسم الله في مكان عبادة لله !
كيف الفرق بين مها التي نشأت علي الصراع و العنصرية و معاملتها علي أنها أقلية و يوسف القادم من بعيد ما قبل الضجيج و الإنفجارات و تقلبات المتطرفين  .
مها تري أن لا أمل في الغد و يوسف يري الأمل في الغد ، ربما لأن غد يوسف لن يكون علي تلك الأراضي البائسة أما نحن ربما غدًا علي تلك الأرض حيث فناء الأمل بين جنبات الحرب الداخلية .
أنا  أتفهم مها جيدًا ربما أكثر من يوسف ، لأنها فتحت أعيونها داخل السرداب و صوت الطلقات ، كانت لا تملك عراق سعيد !
ما السبب ؟ ما الذي أدي إلي كل تلك العنصرية المتفاقمة التي تخطت حتى حاجة إباحة الدماء؟ .. أعيد الأنانية .
نحن نمتلك طابع الأنانية حيث لا بشر سوانا ، نحن فقط من نستحق أن يكون كل العالم مثلنا .. حتى بعد مرور كل تلك السنوات و التقدم و مازلنا نتمغوط في العنصرية بشدة و في كل صورة من أبسطها لأقذرها .
نحن نتعلم طوال حياتنا أن نعيش في مجتمع واحد ، وطن بلا تفرق و مع ذلك نفرق طول الوقت و نحكم علي الآخرين من خلالنا لأنهم لا يشبهونا !
لذا نستحق هذا الجحيم بجدارة .
الرواية صغيرة الحجم و نمط سردها متكلم منقسم بين يوسف و مها ، السرد كان سلس و بسيط لم يكن مميزًا لكنه كان جيد ، أما اللغة العامية العراقية لم تكن بالصعوبة التي تخيلتها و ظفرت بفهمها .
متمسكة و مرتكزة علي بضع نقاط فقط لا تخرج عنهما ، يوسف و عائلته و مها و عائلتها بتتابع أربع فصول ، و فصل أخير عن المأساة .
العمل كان جيد لحد ما لم يكن ممتاز ، ربما بسبب اعتماده علي أحداث العراق كعامل الجذب الوحيد و مرور الكرام علي الشخصيتين من كلا الجوانب ليصل لمنطقة السرد التي تتبلور حولها الفكرة ، كسر هذا في يوسف قليلًا  لكن في شخصية مها شعرت به يركض ليصل للنقطة التي تخدم الفكرة .
لكنها تظل جيدة و أجادت وصف الأحداث و المأساة .
التقييم
6.9/10   







الثلاثاء، 6 سبتمبر 2016

" لا تخبري ماما " .. موهبة تحويل الضحية إلي جاني متلذذ بالمعاناة .


" كنت أثق في حبها و أعلم أنها تبادلني الحب نفسه ، وبذلك ستطلب منه إلا يكرر فعلته مرة ثانية .. لكنها لم تفعل " .
هل يعتقد الجميع أنها الجملة المناسبة لبدأ كل الآراء حول هذا الكتاب ؟
حسنا الكثير من الآراء حوله بدأت به لأنه الأقوى و الأكثر إيلامًا و الأشد الحقيقية ، تلك الحقيقة التي تجعل أي شيء آخر سواها كذبة باهتة .
لكن سببي مختلف قليلًا ، أنا بدأت بها لأنها القصة و الغاية و المغزى و الموت المتكرر .. لم أقتنع أبدًا بغريزة الأمومة المزعومة لأني أعرف أمهات أكثر ممن تتحدثون عنهن و عن تفاهمهن و تفانيهن في الحب ، أعرف أكثر يتركون أبنائهم ليستمعوا و يروا أسوء ما يفعلون و يحملونهم وزر شناعتهم في سن صغير ، أمهات تكذب و تخون و تسرق أمام أطفالها ، أمهات تتنازل من أجل رجل أو  حياة أو لذة عن طفلها ، أم تحب ابن أكثر من آخر و تداعيات كثيرة في كل مجتمع ..
هل تعرف لما أصبح هناك فلسفة ؟ لأن الإنسان أحب نفسه لآخر درجات الأنانية و أستوي يظلم و ينشر الشر و الحقد و التداعي في المبادئ لأجل نفسه !
الإنسان عدو نفسه ، فكيف يصبح تجاه شخصًا آخر حتى لو كان منه ؟؟
لذا أنا لم أتفاجئ كثيرًا من رد فعل الأم ، لأن حتى الأم يمكن أن تصبغ نفسها بالظلم و سواد القلب و الضمير من أجل رجل جذاب يصغرها بخمس سنوات .
تضايقت كثيرًا من توني و صمتها الدائم و فوق ذلك اقتناعها بحب أمها ، أي حب هذا الذي كانت تظن أنها تكنه لها ؟ أي نوع سادي من أنواع الحب الذي يجعل راشدة تلقي بمصائبها علي طفلة ! و توبخها و تتركها للموت حتى تذهب إلي أبعد مشفى !
بحق ما تؤمنين به ، أي حب ؟؟ .
أنكِ قط لم تملكِ الشجاعة للاعتراف بأنها لا تحبك ، و أنكِ رغم كل الظلم الواقع عليكِ إلا أنكِ حين أصبحتِ مراهقة صمتِ و تركتيه يفعل ذلك ، و ربما أن لم تحملي فإنه كان للآن مازال يفعل ما يفعله معكِ !
أنا آسفة ؛ لكن نحن أيضا مشاركين في خطأ الآخرين بصمتنا و قلت شجاعتنا و كذبنا علي أنفسنا قبل أن نكذب علي أحد ، نخطئ حين نتخلى عن حقنا بصمت حين تباح لنا الفرصة .
و في مرحلة متقدمة من القراءة وجدتِ أن الحيرة انتابتني ، هل أنا معك أم ضدك ؟
أنا التي تعطفت و بكيت معك منذ البداية ، تألمت علي طفلة ظنت أن أمها ستحميها و فجأة وجدت نفسها في لعبة " السر الذي بيننا " ، لكن ماذا عن صمت المراهقة التي لم تخبر أحدًا و لا حتى جدتها الإنجليزية التي وصفتها بالطيبة و الحنان !!
ماذا عن توني التي ظلت تعتقد في حب والدتها بعد أن تركتها تحتضر وحدها ، بعد أن كانت تكذب علي شخص تقابله بشأنها و تعاملها كأنها مصيبة الأسرة !
بعد أن طردتها خارج المنزل في الليل وحدها !!
ماذا عن توني التي حين رأت أمها تجلس تحت قدم أبها صعدت غرفتها لتعلب " لقد عاد والدك ؟ " .. ماذا عن توني التي أخبرت أباها في المشفى أنها ابنته !
ألم تكوني ابنته حين كان في أحشائك طفلًا منه ؟؟
ماذا عن  توني التي لم تواجه قط بحقيقته و لم تواجه أمها بحقيقتها و ظلت صامتة ، ظلت تتقبل كل إساءة و تتقبل بصدر رحب دور الفتاة المطيعة !
هل حين ماتت أمك تخلصتِ من أنطوانيت ؟؟ لا أعتقد !
 أظن هي من تركتكِ يا توني .. هي الشخص الوحيد الذي أنقطع قلبي لأجله !
**

 " توني، يجب عليك أن تدركي الأدوار التي قام بها والديك لانتهاك طفولتك. كما عليك أن تستوعبي وتتقبلي حقيقة أن والدتك لعبت دورًا في معاناتك. هذه هي الطريقة المثلى لتحرري نفسك ممَّا أنت فيه، لأن هذا هو الأمر الوحيد الذي  لم تتقبَّليه حتى الآن "
لم أستطع تقبل حقيقة أنها أصرت في محاضر الشرطة علي أنها لم تخبر والدتها ، ظنت أنها بذلك ستقنع نفسها أنها لم تشارك في معاناتها و أنا أظن أنها السبب الأكبر في تلك المعاناة ، إن كانت لا تقدر قيمة طفل و لا تقدر علي حمايته فلم أنجبت ؟ ألن تكتمل لعبة الأسرة السعيدة دون طفل !
و من أجل لعبة ننجب إنسان ليعذب !! .. لكن لماذا تركته يفعل ذلك ؟
أظن أن القس أيضا أجاب علي هذا السؤال

" الحبُّ هو عادةٌ يصعُب التخلص منها. اسألي أي امرأة استمرت في علاقة سيِّئة مع رجل ثم انتهى الحب بينهما! حتى التي تهرب من زوجها بحثًا عن ملاذ، غالبًا ما تعود إليه مرة أخرى! أتدرين لماذا؟ لأنها واقعةً في حبِّ الرَّجل، ليس الذي يؤذيها الآن، ولكن الذي ظنَّت أنها تزوجته بادئ ذي بَدء "
أعتقد أننا نحول الحب إلي عادة سيئة كلما تجاهلنا عقلنا و أبعدنه عن العقل ، و لا أدري ما سيصفر عن علاقة بلا ضلع غير المعاناة ؟!

**
قرأت عن فترة الخمسينيات مجتمعيًا و سياسيًا في كتب سابقة ، و كنت أعلم مدي انغلاق المجتمع الواحد علي نفسه و مدي سياديته في وضع معايير معينة لكي يقبل شخصًا جديدًا .. و مدي العنصرية التي كانت و التي تزدد إلي الآن ..
أيرلندا من الدول التي تمتلئ بحقبات قاتمة في التاريخ علي المستوي الاجتماعي أو السياسي خصوصًا في مطلع الخمسينيات حيث عدم لفت الانتباه  علي قانون الأطفال و المتابعات الأسرية المستمرة ، و عدم أحقية الطفل الذي يقع تحت ذلك الضغط النفسي بتوفير مكان رعاية و قانون حماية له .
لكن صفة احتراف تحويل الضحية لجاني لم أعرف أنها منذ زمن قديم ، كيف استطاعوا أن يرموها بوزر خطئها علي الصمت .. هل كانوا سيصدقونها حين تتكلم ؟
أشك .. كن أيضا سيقع الخطأ عليها ؟ الأسهل أن يقع عليها لأن الكبار لا تخطئ ، الكبار لا تخطئ أبدًا .. الكبار هم دائمًا علي صواب
لعنة الله الكبار ذاك ..
و قد لخص القاضي ما ستعانيه من المجتمع بعد سجن والدها :
" أنطوانيت، ستكتشفين أنَّ الحياة ليست عادلة. فالناس سيلومونك، فاستمعي إليَّ جيدًا: لقد اطَّلعْت على تقارير الشُّرطة والتَّقارير الطِّبية، وأعرف ما مررت به بالضَّبط. وأؤكد لك أنَّ أيَّا من هذا لم يكن خطأك"
اعتبرتها سيرة ذاتية واقعية صادمة ، تضايقني السير الذاتية التي تظهر صاحبها بطلًا و حصل علي السعادة لأنه ذكيًا و عبقريًا و يستحق ، تفوق بين أقرانه في الدراسة و أصبح المحبوب بين الأساتذة و أخيرًا حصل علي نوبل !!
الحياة ليست وردية ، أنها رمادية أغلب الأحيان و الأذكياء لا يحصلوا دومًا علي الجوائز و لا يتم إنقاذهم في اللحظات الأخيرة .. و تخيلِ أيضا – لا يقف في طريقه الحظ و الأناس الطيبين دومًا .
***
أنا بعيدة عن أن أٌقيم حياة شخصًا ما ، لكني سأقيم الكتاب أدبيًا ..
السرد كان جيدًا ، تعلم متى تتحدث باستفاضة و متى تختصر ، سير الأحداث بشكل ما متماسك و لحظات العودة للملجأ كانت اختياراتها قليلة و جيدة ..
بدا أقرب لرواية من سير ذاتية لكن تعليقات توني الكبيرة كانت تعيدني برفق لأتذكر أنه سيرة ذاتية و هذا أدبيًا شيء جيد ..
الترجمة جيدًا و متفادية الأخطاء الإملائية و النحوية و هذا مريح ..
في المجمل كتاب جيد
و أنا ما تألمت إلا لأنطوانيت الطفلة ذات الستة سنوات و حتى الحادية عشر
التي عانت من أمها و أباها و المجتمع و من توني ..
و تمنيت أن تحظى بالسلام فعلا و تتحرر من الألم
فحين يعطي الألم المساحة ، و يباحى له أن يخرج و  أن نشعر به
في النهاية نتخلص منه .
فكما قال جون غرين  " الألم يطالب بالشعور به " .
التقييم
6.9/10