دلفت نهلة إلي الشقة و هي تمتم بكلمات غير مفهومة فجاءت
ليلي من المطبخ علي صوتها و انفجرت ضحكاً حين رأت احمرار و جنتيها من أثر الضيق و
سألته بضحك :
" اللهم ما أجعله خير .. مالك؟ "
وضعت الكتب علي المنضدة و حقيبتها فوقهم و اندفعت قائلة
:
" البني الرذل اللي أسمه معتز اللي كان هنا أمبارح
نازل معاكسة من البلكونة و تحت و أنا راجعه حاجة فظيعة "
ضحكت ليلي بصوت مرتفع و قالت بأنفاس متقاطعة :
" معتز طيب و الله بس هو عايز كده مش بيلم روحه مع
البنات "
ضربت نهلة الأرض بقدميه قائلة :
" ده رخم و بيضايقني بس أنا مش سكت بهدلته "
قهقهت ليلي و ترطب علي كتف نهلة ثم قالت :
"خلاص أنا مش ها أخليك يضيقك ثاني .. أدخلي أنتي
غيري عشان الغداء "
" حاضر "
قالتها و حملت حقيبتها و الكتب و دلفت غرفتها وضعتهم علي
المكتب وحملت المنشفة و اتجهت إلي الحمام أخذت حماماً بارداً وعادت إلي الغرفة ،
لملمت شعرها الفحام في ضفيرة رقيقة و التقطت سترة منامتها التي تتكون من بنطال
أزرق و تشيرت أبيض رقيق و تلك السترة الزرقاء التي ارتدتها و وضعت كالشنوها علي
رأسها و اتجهت تفتح الشرفة و دلفت إليها تستنشق الهواء و في يدها رواية "لا
أنام" لإحسان عبد القدوس فتحت أولي صفحاتها وشرعت تقرءا و في وسط أندمجها
سمعت صوت في شرفة البانية التي بجانبها فرفعت عينيها تلقائياً لتجد ذلك الشاب الذي
كان مع معتز جارها المقيت فتعلقت عينيها به فكان قد جلس علي مقعد أمامها واضعاً
يده علي شفتيه فاتحاً عينيه التي خيل إليها أنها خضراء بلون الزرع ينظر إلي
اللاشيء يزفر كل ثوان في ضيق حتى امتدت يده تفتح زراً أخر من قميصه الكلاسيكي سماحة
بدخول نسمات الهواء التي بدأت تبرد ، كانت عينيها تتعلق به لا لسبب سوا أنه أشبه
في جلسته أحدي أبطال الروايات أو ربما لشيء أخر لم تعرفه كل ما فعلته كان تلقائياً
للغاية كانت شردت في تفاصيله التي باتت ساخرة في نفس الدقيقة التي آتي إلي مسماعها صوت ليلي:
" سرحانة و بتبصي علي أيه يا نهلة ؟؟!"
استردت نهلة نفسها و ربطت بين حديث ليلي و السخرية التي
تعلو وجه ذلك الشاب فاحمرت وجنتيها و تلعثمت حروفها :
" أنا .. أبداً يا طنط .. ده أنا كنت بقراء الرواية
و سرحت "
" طيب يا حبيبتي عشان الغداء "
أغلقت نهلة الكتاب ووضعته علي المنضدة البلاستيكية التي
تتوسط الشرفة و نهضت وهي تلقي نظرة علي ذات الشاب لتجده ينظر تجاهها في سخرية
ظاهرة زفرت بضيق مؤكدة لنفسها أنه بالطبع رائها و هي شاردة في ملامحه ، كورت يدها
علي شكل قبضة و راحت تضغط عليها مؤنبة نفسها بما فعلته و هي تغادر الشرفة للغداء..
جلست تنقب الطعام علي السفرة من شدة ضيقه فلاحظت ليلي و
سألتها :
" مالك يا نونوه "
"أبداً .. هو كنت نازلة كمان شوية أخرج مع صحبتي
ممكن ؟"
" طبعا يا حبيبتي بس لازم تأكلي .. بطلي السرحان و
كلي "
"حاضر "
حاولت أن تلتهم الطعام دون أن تشرد لكن عقلها أن يأبي
تنفيذ أوامرها و يشرد كل بضع دقائق ثم يعود مرة آخري ظلت هكذا حتى أنهت الطعام ،
نهضت بعدها إلي غرفتها أدلت ثيابها إلي بنطال جينز أزرق فاتح و تشيرت أبيض و ستره
حمراء قطنية و حجاباً أبيض بسيطة و التقطت حذائها الأبيض الأرضي و حقيبتها البسيطة
في يدها و دلفت خارج الغرفة ، اتجهت إلي الأريكة التي تجلس عليها ليلي و همهمت
قائلة :
" مش ها أتأخر علي فكرة "
أغلقت ليلي التلفاز واستدارت لها قائلة :
" طيب في فلوس في الدرج اللي عاوزه تأخدي من غير
كسوف .. و لما أتصل تردي "
التقطت نهلة فردة حذائها الثانية و قالت وهي ترتديها :
" حاضر "
"أنا كما ها أطلع عند جارتنا اللي في السادس أم
معتز ها أقعد معها شوية لحد ما ترجعي "
نهضت نهلة و ابتسمت :
" معتز الرخم ماشي .. يالا أنا ها أنزل سلام"
ابتسمت ليلي و هممت بكلمات السلامة و غادرت نهلة و من
بعدها هي ،نزلت نهلة الدرج بسرعة لتلحق بشيماء التي تنظر عند المحطة تخطت باب
البانية و سارت مندفعة فاصطدمت بعنف في جسد شخص قوي البنيان إلي حد ألمها أطلقت آه
ألم و أمسكت كلتا زراعيها و قالت بعصيبة :
" مش تفتح "
نطق الشخص بحروف لاذعة ساخرة :
" أنا بردوه "
رفعت عينيها له بغضب سرعان ما تحول لحرج دامي لمعرفتها
أنه ذلك الشخص صديق جارها ، ابتلعت أنفاسها و حاولت أن تبدو طبيعية و فتحت فهمها
كي تتحدث لكنه سبقها قائلاً:
"أنتي علي طول بتدخلي شمال "
طرقت الأرض بقدميها بخفة قم قالت بخفوت :
" ده يمين مش شمال"
ضحك عمرو محركاً رأسه يميناً ويساراً :
" ها أقول أيه أتفضلي يا آنسة و أبقي خالي بالك و
أنتي ماشية "
لم تستطع النطق
بل رددت شيئاً بخفوت لم تسمعه هي نفسها و سارت إلي المحطة بينما ابتسم عمرو
و اتجه إلي سيارته ..
جلس دخلها يفكر ماذا سيفعل كيف سيجد زوجة بهذه السهولة
التي تتصورها والدتها وهو بالأصل لا يريد كم يكره تلك النساء اللواتي يبنون
التوقعات و يصدقونها و يتعاملون علي أنها حقيقة كم يكره حقيقة تعلقه بشخص يتعس
لتعاسته و يفعل ما بوسعه لفرحه أنه شعور الضعفاء وهو يمقت الضعف ، تنهدت بيأس لذلك
اليوم الذي لن ينتهي أبداً فبدا له كأنه دهر من الآلم ..
كانت نهلة تجلس بجانب شيماء في الأتوبيس صامتة تماماً
شاردة في دنيا أخري حتى هي نفسها لا تعرف فيما هي شاردة وضعت يدها أسفل ذقنها و
ارتكزت عليها و أطلقت تنهيدة قصيرة مع خيال ابتسامة لن تنكر أن تعلقها بلون عينيه
العسلي المائل للأخضر و بوسامته الملحوظة التي تشبه أبطال الروايات تبدو أصلاً
كأنها داخل رواية أو فيلم فكم تلك الصدف غير طبيعي ، تنهيدة آخري و فقدت دينا
عقلها و اندفعت تسألها :
" مالك يا بنتي في أيه "
أفاقت علي صوتها نظرت لها و قالت بنبرة تبدو طبيعية :
" أبدا افتكرت حاجة ..هو أحنا ها ننزل فين "
" ها ننزل خالد أبن الوليد ونتمشى هناك شوية ونلف بقي"
"طيب"
قالتها واستدارت تنظر للشارع ساهمة شاردة من جديد ..
************
كان جالساً أمام التلفاز شارد
الذهن يدخن كمطفأً للحريق يفكر في الأسبوع الذي ماض دون أن يصل إلي حل أو حتى
لعروسة مناسبة أنه غير عابئ بشيء غير أن ينتهي ذلك الشيء بخصوص عمه و أبيه رحمه
الله ، تنهد بضيق و إطفاء لفافة التبغ التي في يده و أغلق التلفاز و نهض إلي غرفته
نومه الأنيق و أرتدي حلته البنية و خرج بسيارته يلفلف في شوارع المدينة حتى وصل
إلي بيت صديقه علي ترجل من سيارته و سار تجاه البيت ناظراً للأرض في شرود فاصطدم
كتفه بيد أحدهم أوقع منه بعض الكتب واقف نظراً للكتب و الفتاة التي اصطدم به و هي
تلتقط الكتب و ترفع رأسها ببطء و يري في نظرة عينيها الخجل ثم العناد وهي تقول :
" أنت مستقصدني بقي "
ابتسم ابتسامة هادئة و قال
بهدوء :
" أنت اللي بتقصدي تجي وقت
ما أجي "
"أصل الرجل مش أديني
مواعيدك و كده بقي "
وضع يده في جيبه قائلاً:
" بتتريق "
استدارت قائلة بعفوية :
" عندك رد تأني علي كلامك
ده غير التريقة"
و سارت بخطوات سريعة إلي
البانية حتى أختفت دخلها ، فاتجه هو إلي الآخر و صعد إلي علي صديقه المقرب في تلك
المدينة و الوحيد الذي يستطع التحدث معه بحرية لذا أفرغ له ما يدور بخلده ثم قال :
" مش عارف يا علي أعمل
حاجة حتى الشغل تركيز قل فيه"
شد الآخر علي حديثه قائلاً :
"كله إلا شغلك يا عمرو ده
أنت أشطر دكتور في المستشفي "
"أعمل أيه بس تعبان و
مخنوق أوي يا علي "
" ليها حل يا أبني ليها حل"
"هو فين بس ده أنا أمي كل
يوم تتصل تسأل "
" ها نفكر سوا و ها نقدر
نوصل لحل "
"يأرب "
"قوم أنت غيري كده و أرتاح
عشان أنت قاعد معايا أنها رده و من غير اعتراض"
لم يعترض فهو بحاجة إلي صديقه
إلي صحبة أكثر من الجلوس وحده لذا اتجه إلي أحدي الغرفة ليبدل ثيابه ...
*******
كانت تتوسط نهلة جلسة ليلي و
صديقتها نادية و جارتهم الشابة دعاء يتسامرون أربعتهم في أشياء كثير بينما ينطلق
من نهلة بعض التعليقات المضحكة فيضحكون
جمعياً عدا دعاء الساهمة فتجتذبها نهلة بعيداً و تسألها :
"مالك يا دعاء "
"أبداً يا نهلة ما فيش
حاجة"
"أزاي ده من ساعة ما جيت
هنا و أنتي ساكتة و مسهمة كده"
نظرت لها بعينين بللتهما الدموع
قائلة بخفوت :
" معتز يا نهلة مش بيرد
عليا ولا عارفه أشوفه"
بادلتها نهلة بخفوت:
" هو أنتي بتحبي "
كادت أن تقول شيء ثم صمتت و هزت
رأسها فأردفت نهلة :
" طيب طالما كده ليه مش
بتخطبوا "
ابتسمت بسخرية :
" معتز يخطب ده من
المستحيلات"
"لازم تحاولي لو بتحبي بجد
، حاولي يا دعاء لو مش أتغير خلاص سيبه"
تنهدت دعاء بحزن بينما أردفت
نهلة :
" بصي بلاش نكلم ده الوقت
عشان ها يلاحظوا تعالي نعقد معهم عادي و كأن ما فيش حاجة و بعدين نتكلم براحتنا"
" ماشي"
نهضوا و عادوا للجلوس معهم مرة
آخري حتى انفض المجلس علي وعد من نهلة بالجلوس مع دعاء وحدها و عند مغادرتهم خرجت
نهلة إلي الشرفة و معه كوب الشيكولاته التي تفضلها دوماً رغم حساسياتها منها رشفة
منها عدده رشفات وراحت تراقب الشارع الهادئ الفارغ فتهادي إلي صوتها صوت رجولي
تعرفه جيداً :
" مش بقولك أنك أنتي اللي
قاصدة "
نظرت له و لم تستطع إخفاء
لامعان عينيها لو سامته المفرطة و كأنه نقطة سوداء لكل رجال العالم فكان يرتدي بنطال
قطني أسود و تشيرت أسود و يضع نظارة طبية أنيقة للغاية و شعره في حالة فوضي محببة
جذابة مستند بيده علي الشرفة لكنها تجاوزت ذلك قائلة :
"ده علي أساس أنك عزلت
لهنا"
"لسانك دايمًا طويل كده
"
" مش دايمًا يعني ، بس أول
مرة صحبك عاكسني و أنت جيت "
أكمل حديثها :
" و الثاني و أنت سرحانة
في البلكونة و الثالث و أنت طالعة تجري مش
شايفة قدامك والرابعة بالكتب و الخامسة أهي "
احمرت وجنتيها خجلاً لذكره
لشرودها في الشرفة و قالت دون أن تنظر :
" خلاص بقي حصل خير "
ابتسم قائلاً :
" طيب بتشربي أيه يا نهلة
"
" دي كاكاو "
" بحب أنا الكاكاو أوي يا
نهلة بس من كثير مشربتهش "
نظرت لعينه التي أصبحت في لون
العسل في ضوء القمر متسائلة:
"عرفت أسمي أزاي ؟"
ابتسم و أشار إلي فوق :
" ما هو معتز قالي علي
اللي عملتي و أزاي عرف أسمك"
"آه طيب تشرب شيكولاته يا
... ؟ "
ابتسم وهو يمد يده :
" دكتور عمرو "
مدت له الكوب قائلة :
"أتفضل يا دكتور عمرو "
رشفة منها عدده رشفات ثم قال :
" قوليلي بقي عمرك كام ؟
"
رفعت أحدي حاجبيها :
"أنت ها تتعرف ولا أيه
"
ضحك ثم قال :
" أديني بندرش و أحنا
واقفيني و أطمني أنا مش معتز يعني "
تنهدت قائلة ببساطة :
" طيب عمري سنة و أنت بقي ؟
"
رشفة رشفتين ثم قال :
" أنا ثمانية و عشرين سنة ..
بتدرسي أيه"
" ثالثة تجارة "
"أنا دكتور جراح علي فكرة "
اندهشت قائلة:
" بجد؟!"
"آه مستغربة ليه؟"
"يعني سنك صغير شوية "
" أصلي درست بره و هناك كل
حاجة متطورة وسريعة "
"آه "
أعطها الكوب الذب باقي نصفه فرشفة
رشفتين بينما قال هو :
" أنتي معزلة قريبة مع مامتك
هنا "
صمت لحظة و ابتلعت أنفاسها قائلة
:
"لا .. طنط ليلي خالة ماما
و أنا قاعدة معها "
أؤمه عمرو برأسه كمن فطنت شيء ثم
تسأل :
" يعني هي مسئولة عنك و قاعدة
معها علي طول"
ابتلعت أنفاسه و غمغمت :
" آه"
"هاتي يا ماما الكوباية أنتي
ها تخلصيها كلها لوحدك ولا أيه"
ابتسمت و ناولتها إياها فرشفه منها
و أردف :
"بتحب القراية شكلك "
"آه أوي "
و تعالي صوت رنين هاتفها فأستأذن
منها و أؤمت له برأسها فابتعدت عن الشرفة قليلاً و فتح الاتصال :
" الو يا ماما "
" أزيك يا حبيبي ؟ "
" أزيك يا حبيبي ؟ "
"الحمد لله .. أخباركم أنتم
أيه و البلد"
"كله تمام المهم أنت ها لاقيت
عروسة و ها تفرحني بقي بك "
" يا ماما أصل الموضوع محتاج
وقت و "
قاطعته بعتاب حاد :
"أنت كلها كام شهر و تكمل تسعة
وعشرين ناوي تتجوز و أنت كام يا أبني .. مش كده حرام عليك مش كده كام سنة بتحايل عليك
و أنت مصمم "
صمت بضع ثوان و تنهدت بضيق ثم قال
بحروق ثقيلة :
" خلاص يا ماما أنا لاقيت عروسة
بس كنت مستني "
قاطعته مرة أخري:
" ما فيش مستني لازم أجيلك
نخطبها "
"حاضر ها أرتب كل حاجة في أيامك
و أكلمك"
" و أنا مستنيه علي نار"
" ماشي يا أمي ها أقفل أنا
ده الوقت "
" ماضي خالي بالك علي نفسك
يا حبيبي"
"حاضر .ز سلام"
"مع السلام يا عمرو "
أغلق الهاتف و نظر إلي كوب الكاكاو
و إلي نهلة من خلف ستائر الشرفة وهي تنظره تطلع إليها بنظرات ثاقبة لدقائق طويلة ...
يـتـبـع ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق