كانت الشمس تتوسط السماء و
الساعة تتجاوز الثانية بقليل و هي تسير في دلال هادئ و ملامحها مبتسمة تحمل كتبها
بين يدها و تتهادي في خطها شاعرة بسعادة لحصولها علي رواية "في بيتنا
رجل" لإحسان عبد القدوس في نسخة ورقية جديدة كم تود قرأتها و هروبها دخلها من
كل شيء يحدث حولها، احتضنتها برقة ، و أكملت سيرها و هي تستنشق الهواء النقي وتزيح
حجابها من علي وجهها بين حين و آخر و حين وصلت إلي شارعها وقفت غيمة حزن علي رأسها و هي تقارن بين باقي الشوارع و شارعها
المتسخ و أهمل الناس له حتى صار جزء من الأحياء الشعبية مع أنه يطل علي البحر و
حوله شوارع أكثر نظافة لكن الناس لم يتركه مثلهم و كأنهم يحزنون إذا جلسوا في وسط
هدوء و نظافة ، تنهدت و هي تهز رأسها بيأس و اتجهت صوب بنايتها التي تحتاج فقط
للاهتمام كالشارع حتى يصبحوا في أوجه حالاتهم كصور الشارع القديمة ! .
صعدت عدده درجات بينما استوقفه
أحدهما قائلاً :
"متعرفيش يا بنتي شقة
أستاذ مصطفي أبو نهلة ؟"
استدارت نهلة ملتفت إلي ذلك
الرجل قائلة في بساطة :
" آه ده بابا حضرتك .. خير
في حاجة"
"أنا شريف عزت جاي من طرف
عمك عبد المقصود "
رفعت حاجبيه في دهشة قائلة:
"عمي!! .. طيب شيء هائل
أنه لسه فاكرنا عموماً أتفضل حضرتك معايا"
هز رأسه بابتسامة صغيرة وصعد
ورائها و هي تسخط في سرها علي صاحب البانية الذي لم يصلح المصعد منذ أسبوع ، صعدت
الطوابق في سرعة و بالكاد الرجل يلحق بها حتى
وصل منقطع الأنفاس ليجدها تقف مستندة علي حافة الشقة تنظره فابتسمت له برقة
و استدارت تفتح الباب و سرعان ما ابتسمت
براحة لوجود المنزل علي حاله حين نظفته ورتبته صباحاً دعته بصمت إلي الدخل وهرعت
إلي المطبخ و تمسك بيديها الصغيرتين كوب ماء اقتربت منه و ناولته إياه :
" أتفضل يا عمو .. معلش
بقي السلم متعب و الأسانسر عطلان من أسبوع "
تجرع الرجل الكوب كاملاً و بدأ
لهثه يقل و أردف بصوت متقطع :
"عادي ولا يهمك يا بنتي .. بس هو بابا ها يتأخر "
"لا خالص دقائق وتلاقي هنا
حضرتك .. تحب حضرتك تشرب حاجة ؟ "
"متشكر "
جلست نهلة أمامه في هدوء تفكر
في سبب مجيئه لم تجرأ علي سؤاله و كذلك لم يسفر عقلها عن شيء فتململت في جلستها
ناظرة للساعة كل عدده دقائق و حين خطت عقارب الساعة الثالثة في خجل أنفتح الباب و
طل منه والدها و والدته فنهضت قائلة في سرعة:
"بابا أستاذ شريف عزت جاي
من طرف عمي عبد المقصود "
نظر والد نهلة إليه و تقدم منه
وخلفها والدتها بينما هي دخلت غرفتها و أغلقت الباب بينما جلس والدها و بجانبه
والدته قائلاً بكياسة:
"أهلاً و سهلاً يا أستاذ
شريف "
تنحنح ثم ابتلع ريقه و قال:
"أهلاً بحضرتك يا أستاذ
مصطفي ، الحقيقة أنا مساعد دكتور عبد المقصود في مكتبه والجامعة و هو في المستشفي
تعبان أوي ده الوقت لكن هو طلب مني أوصلك حاجات"
لمحة حزن أطلت من وجه مصطفي
سرعان ما ضاعت وسط الحيرة "ماذا يريد شقيقه منه بعد كل تلك السنين؟"
سؤال لن يجيبه مد الدهر هو لا يعرف كيف لا يفكر أبداً لأنه لا يعرفه أصلاً ، انتبه
أنه شرد فأردف سريعاً :
"آه حاجة أيه ؟!"
نظر له مالياً و ووضع الملف
أمامه قائلاً:
"الملف ده في شيك بسبعين
ألف جنبه ، و كمان ثلاثة عقود عمل بره في شركة ومصنع كبار .. و الدكتور بيقول
لحضرتك المبلغ ده تقدر تستلمه بعد شغلك هناك لمدة خمس سنين ده اللي قدر يوفره ليك
بعد كل اللي راح "
"اللي راح خلاص ما فيش
حاجة تقدر ترجعه"
خرجت هذه الجملة من فم نجلاء في
شروط فتنحنح شريف ونهض من مجلسه استأذنهما في الرحيل فأموه برأسهم وهمهم كلا منهما
بكلمات غير مفهومة لكنها كافية لتوصله إلي الباب ، بعد أن أنغلق الباب نظرت نجلاء
إلي مصطفي و همست :
"ها نعمل أيه يا مصطفي
"
تنهدت مصطفي و أجابها بهمس :
"مش عارف "
لحظات تفكير قصير قطعها صوت
نجلاء :
" تعالي يا نهلة"
جاءت نجلاء تركض من غرفتها و
وقفت أمامه ببشاشة محببة قائلة:
"نعم يا ماما"
"أحنا ممكن نسافر"
اكتست الحيرة ملامحها ووقفت تبدل
النظر إليهما ...
*********
كان يجلس وحيداً في غرفة
الأطباء الهدوء يخيم علي الأجواء حوله و المشفي في حالة هدوء تام أرجع رأسه للخلف
و أغمض عينيه عله ينل قسطاً صغيراً من الراحة و بمجرد أن أغلق عينيه بدأ تنفسه
ينتظم ببطء..
فدخلت هي في هدوء علي أطرف
أصابعها أغلقت الباب خلفها و خفت الإضاءة أقل مما كانت عليه و آخذت تقترب منه بطئ
حتى دنت إلي كرسيه وقفت خلفه تقرب ملامحه وتفترس فيها كأنها تلتهمها بعيونها
القاسية ثم متدت أناملها و آخذت تتحسس وجه من ذقنه إلي شفتيه إلي عينيه ثم تتلاعب
في خصلات شعره البني و هي تفترس في ملامحه ..
فتح عينه ليصدم بعينه فتفاجأت و
ارتعشت يدها و ابتعدت خطوة للوراء فنهض خلفها و واقف أمامه قائلاً بصوته الجوهري
الغاضب :
" كنتي بتعملي أيه هنا !
"
ابتلعت أنفاسها و هي تنظر لفتات
الغضب المتطير من عينيه و حاولت أن تتحدث و لم تستطع فعاد المحاولة و قالت بصوت
أقرب للهمس:
" آسفة يا دكتور .. أصلي
حضرتك كنت نايم و أنا ... "
"و أنتي أيه اللي كنتي
بتعملي كوم و اللي عملتي أنها رده ده كوم تأني يا لبني أنا مش سيبك لحلاوتك لا أنا
سيبك عشان قطع عيش الناس وحش يا بنت الناس .. أحنا هنا في مستشفي منظر زى ده يبوظ
سمعتي كدكتور طول حياتي ده غير أني راجل صعيدي و اللي بتعملي في عرفنا نهايته
الموت "
لم تستطع الحديث الرد ألجامها
تماماً لكن دخلها لم تيأس فمظهره الغاضب و سحاب النار التي تتربع فوق لم تخفي عرقه
و اضطرابه منها ، فأستعاد رابط جأشها و ابتلعت أنفاسها و قالت بصوت هامس باكي
مصطنع :
"آسفة يا دكتور أول و أخر
مرة أفقد تحكمي في نفسي بس عموماً أنا جيت أبلغ حضرتك أن دكتور أشرف عزت عايز
حضرتك "
قالتها وانسحبت من أمامه و صوت
تشنجها يعلي بينما رسمت ابتسامة صغيرة علي شفتيها ...
****************
بعد مرور أقل من سبعة أيام و لا
تعرف ماذا حدث ولا كيف حدث كل ما تعرفه أنها تجلس في سيارة أجري بجانب ليلي خالة
والدتها الجميلة عائدين من المطار إلي شقتها في محرم بك ، نظرت إليه بطرف عينيها
أنها سيدة طيبة حد النخاع بشوشة و حنونة فمنذٌ قرر سفر والديها و هي تحسها علي
العيش معها حيث ستوفر لها كل شيء تحتاجٌ و هي ستكون لها الابنة التي لم يمني الله
به عليه و هي وفقت لما لاقته في عينها من دفئ و حنان و طيبة و وحدة تحتاج لمن
يبددها ، وتم كل شيء في سرعة حتى سافر و والدتها و ودعتهما في المطار حتى عودتها
مع ليلي ، نظرت لها بابتسامة فبادلتها ليلي بابتسامة أكبر ثم أدرت رأسها تقرب
البيوت و الشوارع و وجوه الناس حتى وقفت السيارة في شارع واسطة هادئ حد الراحة
مبانيها حجمها متوسط الطول لا تزيد أكبرها عن عشر طوابق و علي جانبيه أشجار و
محلات للأشياء مختلفة ظلت تنظر له بعمق حتى شعرت بمن يرطب علي كتفيها قائلاً بحنان
:
" أنزلي يا ست نونا بقي
"
استدارت و ابتسم لها و أومت
إليه برأسه و غادرت السيارة بينما ينزل السائق حقيبتها ، رتبت ليلي مرة أخري علي
كتفها و هي تشاور علي البانية التي أمامها قائلة :
"بيتك هنا في الدور الرابع
.. يالا و البواب ها يطلع الشنطة"
"يالا يا طنط "
صعدت نهلة درجات السلم الأمامية
و دلفت إلي مدخل البانية و منه إلي المصعد ثم إلي الطابق الرابع الذي يحوي شقتين
اتجهوا إلي اليمين و دلفه إليه ورائهم البواب بالحقيبة تركها و ذهب مسرعاً أغلقت
ليلي الباب واستدارت تقول :
"بصي بقي ده بيتك قبل ما
يكون بيتي مش عايزه كسوف مني "
نظرت إليه نهلة بمشاكسة قائلة:
" يا لولو أنتي دائما
حبيبتي و ما فيش بينا كسوف"
أمسكت يدها و ازدادت ابتسامتها أتساع:
" يبقي تعالي أتفرجي علي
بيتك "
"يالا"
سارت معها إلي غرفة نوم ليلي
الكبيرة نسبياً ثم إلي غرفة الصالون المتوسط الأنيق و بعدها إلي غرفة الضيوف كما يسمونها بها فراش
متوسط و أريكة صغيرة و مقعد و منضدة صغيرة وبعدها كان البهو الفسيح به طقم صالون
صغير ثم علي بعد عدده أمتار درجتان صعود إلي طاولة الطعام الصغيرة الحديثة و
أخيراً قدتها للغرفة الأخيرة فتحت الباب قائلة :
" و دي أوضتك يا حبيبتي
"
دارت نهلة بعيونها فيها كانت
غرفة كبيرة بها فراش و خزانة ملابس و مرآة متوسطة عليها أدوات تجميل و مكتب أنيق و
مقعد كبير مريح بجانب شرفة كبير امتلأت ملامحها بالسعادة و الراحة و نظرت إلي ليلي
:
" مش عارفه أقولك أيه
الأوضه تجنن بجد متشكرة أوي "
" عيب كده يا بنت أنتي
بنتي .. علي فكرة ما فيش منظر بحر من البلكونة زى عندك هنا بتشوفي الشارع "
نظرت لها بلمحة حزن:
" هنا المكان هادئ و مريح
أوي و الشارع نظيف و يريح الأعصاب .. هناك دوشة و زحمة و ناس مش فاهمها هنا بجد جميل"
احتضنها ليلي مرطبة علي حجابها
قائلة :
" المكان هناك اللي في
بوظه لخطبه كيانه أنما هنا ها تقدري ترتاحي و تعملي اللي نفسك فيه"
رفعت رأسها من علي كتفيها
قائلة:
" ربنا يخليكي بجد بقي
"
" يا بكاشة أنا ها أروح
أعملك أكل سريع كده عقبال ما ترتبي هدومك"
ابتسمت لها رافعه أحدي حاجبيها :
" أوعي تعملي أكل مش بحبه"
ضربتها بخفة علي رأسها و اتجهت إلي
الباب ينما ظلت نهلة تحملق في الغرفة و فما أصبحت فيه من ليلة و ضحها تنهدت قليلاً
و وقفت أمام المرآة تراه وجهها المبتسم بشرتها البيضاء المحمرة و عينيها البنيتين وجسدها
الصغير الرشيق ثم فكت حجابها ليسترسل شعرها الأسود الفحام علي كتفيها في رقة حتى يصل
إلي منتصف ظهرها لأول مرة تنظر لنفسها و تسألها ماذا حدث و كيف حدث لم يستوعب عقلها
كل هذه التغيرات بعد فوضعت حجابها بعشوائية و ذهبت تفتح الشرفة علل الهواء يجعل عقلها
يستوعب ، استنشقت الهواء بقوة وهي تنظر للشارع الهادئ الذي يقطع هدوئها مرور سيارة
كل فترة و أغمضت عينيها تفكر لكن جاءها صوت رجولي ساخر قائلاً:
" هي ليلي خلفت القمر ولا
أيه"
يــتــبــع ...
قصة مشوقة و فيها جانب كبير من الغموض كعادتك دايما
ردحذفطبعا اللى بيكلم نهلة ده معتز