قد رحل عنى كل شيء الآن ..
انطفأت الأنوار و زين السواد الليالي .. انتهت
أحلامي فلم يعد الحلم من حقي .. و ذبلت الوردة الحمراء و سقطت من يدي .. فقد أصبحت
خارج نطاق الحياة الآن ..عفواً أقصد أنني أصبحتٌ في خريف العمر ..
عشرات الأصوات تنبثق جانب
آذنيها بعشرات الأسئلة "كيف؟ لماذا؟ لما" و هي تخفي وجهها بكفيها تستمع
لكل ما يقولونه.. القليل يدافع و الكثير يهاجم يتهمونها
بالعبث و الاندفاع وينهرونها لعدم رزانتها ألا يكفي سنوات عمرها المشارفة علي
الأربعين لتكون رزينة ؟! استطاعت بصعوبة شد
كفيها عن وجهها الأبيض النابض بالحزن لتتشحي به
بعيداً عنهما و هي تقول بصوت واهن "أنا لا أتذكر أنني تفوهت بشيء خاطئ لهذه
الدرجة التي تستدعي مجلس التأديب هذا؟" ألتف الجميع إليها و بعد برهة احتلال
الصمت ألسنتهمّ و كأنهم فجأة اكتشفوا لمحات
الحزن التي شكلت تجاعيد قاسية شقت طريقها إلي وجهها الأبيض البائس
***********
قبل أن تستطع شمس الغد و تحتل
موقعها في قلب السماء بساعات قليلة , كانت تقود سيارتها في الشوارع الفارغة تطوفٌ
بها إلي أن انعطفت في أحد الشوارع الجانبية ثم توقفت عند المقابر, فنزلت حاملة
صحبة من الزهور البيضاء ,استقبلها"عثمان" حارس المقابر باندهاش لقدومها
في هذا الوقت المبكر..
لكن لم تطل دهشته كثيراً فعندما مدت أناملها له ببعض النقود حتى أخذها منها
متلهفاً و هو يبتعد عنها تركها تخلو إلي محرابها في سكينة و صمت , تقدمت فريدة صوب
المقبرة في وقار أملاه قدسية المكان و جلاله توقفت علي بعض خطوات منه و بدئت تتمتم شفتيها بآيات قرآنية قصيرة , ثم وضعت صحبة الزهور
علي رخامة القبر , ثم اقتربت لتقف أمام الرخامة فسقطت دمعة حارة علي وجنتيها آثر
قرأتها للرخامة البيضاء الصغيرة "هنا يرقد المرحوم أحمد أمين" أنتبها
رجفة لدي لفظها لأسم زوجها الراحل فنظرت إلي
أسفل فوجدت الأرض من حولها مغطاة بأوراق الشجر المتساقطة و بعد فترة من النظر
للأوراق خيل لها أنها تري ذكرياتهما معاً , هنا
يضحكان و هنا يركضان و هنا يبتسمان إلي أن توقف كل شيء هنا حيث رحل , فقد رحل عنها
وهي بسن التاسعة و العشرين بقت وحيدة من وقتها لم تكن تفعل شيء سوا المجيء إلي هنا
و العمل و العيش كبقايا إنسانة , و منذ شهر واحد فقد بدء يتبدد الظلام من حولها و
بدت أكثر إشراقاً فمنذ أن جاء"كريم" للعمل معهــا
في نفس الشركة لم يتجاوز حدوده أبداً كان
دوماً رقيقاً عاقلاً هو سبب خروجها للنادي بعد كل تلك السنوات التي بقت وحيدة فيها
هو سبب زيادة إشراقها و أتمه بطلب الزواج منها لا تنكر سعادتها كمراهقة أول مرة
تطلب للزواج فقد أرادت من يبدد وحدتها و يشاركها أيامها الباقية , لكن حين أخبرت
عائلتها عن طلب"كريم" للزواج بها ثارا الكل علي رعونتها المتأخرة و
تصرفاتها الصبيانية في الآونة الأخيرة و إن من هما بمثل سنها أمهات و أجداد لا
يفكران في الزواج حاولت أن تفهمهم أنها ليست أم و لا حتى زوجة أنها فقد إنسانة
وحيدة و لكن لم يسمعها احد بل ظلوا منعقدين في
مجلس التأديب هذا ..
تنهدت فريدة بعمق بعد أن أخرجت
كل هذا الكم من الآلام و فتحت حقيبتها و أخرجت
منديلاً لتمسح وجهها الغائرة بالدموع و استسلمت للتنهيدات
ومرارتها . فقد تصبرت عندما سمعت آيات قرآنية من المسجد القريب و قد علت مكبراته بآذان
صلاة الظهر .. خرجت متجهه إلي سيارتها و راحت تشق المنعطف مرة أخري لتخرج للشارع
الرئيسي و لكن استوقفتها سيارة سوداء تعرفها جيداً , فوجدت قدمها ترتفع بلا وعي
لتنزل بكل قوة علي دواسة الفرملة لتوقف السيارة عند نقطة التقاء الشارع الجانبي
بالطريق , و ترجلت من سيارتها ببطيء لتقف أمامه و تسأله بصوت واهن متقطع "كــ
كيف عرفت مـ مكانِ كريم؟" اقترب كريم منها قليلاًَ قائلاً بصوت هادئ "
لقد أخبرتني عمتكِ أنكِ هنا كما أخبرتنيِ بما حدث بالأمس , لم أكن أعلم أنكِ ضعيفة
هكذا و لن تستطيعِ المقاومة" حاولت الحديث بطريقة تبدو عاقلة هادئة كما هو
يحادثها ولكن باتت كل محاولاتها بالفشل فانطلقت بصوت واهن ضعيف"لم أستطع كريم
الجميع ضدي أبي, شقيق,شقيقتي,حتى أمي لا أحد معِي
سوا عمتي خلفها الجميع يتهموني بقلة رزانتي و تصرفاتي الصبيانية و لم يمهلوني فرصة
للحديث " رق قلب كريم و ظهر حنانه الجارف علي ملامحه و لكنه سيطر علي نفسه و
هو يقول بألم" يجيب أن تدافعي عما تريدين و أنا معكِ لن أتركك بمفردك سنذهب لأحادث أباكِ مرة و أثنين و ثلاثة إن لازمه الآمر
لن أيئس , فمن حقنا أن نحيي من جديد أليس كذلك فريدة؟" دقات قلبها الصغيرة
كادت تصمها لكنها أجابت بحزن و دمعة حارة تساقط علي وجهها" و لكن ليس في خريف
العمر كريم . ربما يكون من حقنا هذا ولكن في فصلاً آخر "
و هنا تساقط بعض قطرات المطر
إلي أن أصبح الماء يتدفق علي كليهما معلناً عن
بدء فصل الشتاء ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق